الشيخ محمد أبو زهرة عمل مدرساً لمقرر تاريخ الديانات بقسم الدعوة والإرشاد من كلية أصول الدين بجمهورية مصر العربية.
هذا الكتاب هو في الأصل تجميع لمحاضرات الشيخ محمد أبو زهرة عن النصرانية والتي كان يلقيها عندما دَرَّس مقرر تاريخ الديانات بقسم الدعوة والإرشاد من كلية أصول الدين، فتم جمعها وطبعها في كتاب واحد ليسهل دراستها وليعم نفعها.
وقد جاء الكتاب في 126 باباً موجزاً، كل باب يحمل عنواناً فرعياً يرتبط في الغالب بما قبله وما بعده.
وهنا أقتبس ما قاله المؤلف بنفسه عن كتابه وعن منهجيته فيه كما ورد في مقدمة الطبعة الثالثة:
"لقد كتبنا تلك المحاضرات بروح المحقق الذي يجمع الحقائق، ويعرضها، وقد تماسك بعضها ببعض، ليتكون من ذلك مجموعة علمية تهدي ولا تضل، وما كنّا نجهد التاريخ لنسيره، ولكنا خضعنا له، وهو الذي كان يسيرنا .. وكنا في ذلك كالقاضي العادل خضع للبيانات التي تكون بين يديه، وهي التي تحكم في الحكم الذي نسجله، لا نغير ولا نبدل، ولا ننحرف بها عن النتائج التي تؤدي إليها مقدماتها، فنسير من حيث يسيربِنَا الدليل، من غير انحراف ولا تحريف."
ثم أردف قائلاً: "وما كانت البيانات التي بين أيدينا من مصادر إسلامية، أو من أعداء المسيحية، بل كانت من كتاب المسيحيين أنفسهم التي سجلوها في تاريخها، كتبها المتقدمون، ورددها المتأخرون، فهي شهادات من أهلها استنطقناها، فنطقت، واستهديناها، فهدت، واسترشدنا بها، وما ضنت."
وقد تحدث في كتابه عن أهم كتب المسيحيين (الأناجيل) وكنائسهم الشرقية والغربية، ورجال الدين المؤثرين عندهم، وحكام الرومان المعاصرينللمسيحية الأولى، كما أوجز الحديث عن أهم المجامع المسيحية التي كان لقرارتها أبرز الأثر في تغيير جوهر الديانة النصرانية (ومن أهمها مجمع نيقية المنعقد عام 325 م، وقد عدَّ المؤرخون المجامع المقدسة العامة وأوصلها إلى عشرين مجمعاً منذ القرون الأولى للمسيحية إلى غاية 1869 م).
وقد بيّن في كتابه تأثر الديانة المسيحية بعقائد الحضارة الرومانية والأفلاطونية الحديثة والفلسفة الإغريقية وبالعقائد الوثنية التي كانت سائدة في العالم آنذاك؛ كما تطرق للعلاقة بين كتب العهد القديم (كـ توراة موسى عليه السلام) بالمسيحية.
وبسط الحديث عن أصل عقيدة التثليث ونشأتها لدى المسيحيين بما تحويه من الاعتقاد بألوهية ثلاثة أقانيم: الرب الأب، والابن، والروح القدس.
"الطريق غير معبّد أمام الباحث الذي يريد أن يكتب في النصرانية كما تجول بخاطر معتنقيها، ويفرض من نفسه ناظراً غير متحيز، يبين العقيدة كما هي في نفس أصحابها، لا كما ينبغي أن تكون، أو كما يعتقد هو؛ لأن الباحث يخلع نفسه مما تعتنق وتؤمن به."
"أهم مصادر المسيحية: - الأناجيل (ويسمونها بالإضافة إلى 'رسالة أعمال الرسل' بالأسفار التاريخية؛ وهي تُعنى بشرح حياة السيد المسيح وحكاية أحواله؛ وهي كثيرة والمعتمدة منها أربعة فقط). - رسائل الرسل (ويسمونها بالأسفار التعليمية؛ وهي تُعنى بالناحية التعليمية التي تبين بها الديانة؛ وعددها 22 رسالة؛ ويقصدون بالرسل هم حواري المسيح وتلاميذهم وبعض من اقتفى أثرهم فيما بعد)"
"والأناجيل المعتبرة عندهم أربعة: - إنجيل متَّى - إنجيل مرقس - إنجيل لوقا - إنجيل يوحنا"
"ومكان الأناجيل في النصرانية مكان القطب والعماد ... وهذه الأناجيل الأربعة هي التي تعترف بها الكنائس، وتقرها الفرق المسيحية، وتأخذ بها ... وهذه الأناجيل الأربعة لم يملها المسيح، ولَم تنزل عليه بوحي إلهي، ولكنها كتبت من بعده ... فهي في نظر النصارى ليست نازلة على عيسى عليه السلام، ولكنها منسوبة لبعض تلاميذه، ومن ينتمي إليهم، وهي تشتمل على أخبار المسيح وقصصه، ومحاوراته وخطبه، وابتدائه ونهايته كما يعتقدون هم."
" ... الأناجيل الثلاثة الأولى ليس فيها ما يدل على ألوهية المسيح! أو هي كانت كذلك قبل تدوين الإنجيل الرابع على الأقل؛ وهذه حقيقة يجب تسجيلها: وهي أن النصارى مكثت أناجيلهم نحو قرن من الزمان ليس فيها نصٌّ على ألوهية المسيح.""
"هذه كتبهم، اعتقدوا أنها كتبت بإلهامٍ من كُتَّابِها، ولَم يقيموا أي دليل على دعوى الإلهام، وبدراستها يتبين التناقض بينها، مما يثبت أنها ليست بإلهام من الله، وبدراسة تاريخها يثبت أنها منقطعة السند عمن نسبت إليهم."
" "ولا يثبتُ مع الشكِّ كتابٌ يكون حجةً لديانة!""
" "إن كتاب كل دين هو الأصل والدعامة والأساس، فإذا كان غير صحيح السند أو غير مقبول لدى العقول كان ثبوت الدين فيه نظر، بل إنه انهار، وفقد أصله ولَم يعد شيئاً في الأديان مذكوراً""
" 'بشارة' هي ترجمة لكلمة 'إنجيل' باليونانية."
"وقال أبو زهرة في معرض حديثه عن محاولات النصارى للجمع بين الوحدانية والتثليث في نهاية الفصل 70 من كتابه: "ومن المعلوم في قواعد الاستدلال أن الاحتمال إذا دخل الاستدلال أبطله، وكل أدلتهم ينفذ الاحتمال إليها من كل جانب.""
"وقال في معرض حديثه عن اتساع فجوة الخلاف بين الكنيستين الشرقية (وترأسها كنيسة القسطنطنية) والغربية (اللاتينية وترأسها كنيسة روما): "كان كلما تقادم الزمن على النقطة التي ابتدأ منها الخلاف اتسعت فرجاته، وكبرت زاوية الانفراج""
"غير أن سلامة الذوق تقتضي بأنه كلما قلت التقاليد في كنيسة من الكنائس دل على أقدميتها بالنسبة التي تزيد عليها فيما هو من هذا القبيل، لأن التقاليد على ما يستبين من مجريات روما قابلة للزيادة، والزيادة إحداث، والإحداث في الدين لا ريب أنه بدعة، والإبداع هو عين ما يسميه المسيحيون 'هرطقة'"
"وفِي معرض الحديث عن رحمة الإسلام بالمسيحيين بعد أن سامتهم الكنيسة الغربية وملوكها الخسف والهوان: "حتى جاءهم الإسلام في القسطنطينية وأعطاهم الأمن والدعة والقرار والاطمئنان، حتى لقد قالوا كما حكى صاحب السوسنة': "عمامة السلطان محمد الفاتح ولا تاج البابا المثلَّث". وهكذا كان الإسلامُ رحيماً تسع رحمته المخالفين.""
"من شعائر المسيحية: التعميد (غسل المولود بالماء ولا يجوز تعميدهم إلا إذا اعترفوا جهاراً بإيمانهم أمام الكنيسة) و العشاء الرباني (أكل الخبز وشرب الخمر؛ واعتقادهم بأن ذلك يستحيل ليصبح جسد و دم المسيح ودخوله في جسد الشخص الذي يتعشى ويعتقدون بحصول تلك الاستحالة حقيقةً وليس مجازاً )"
كتاب ٌرائع ومحايد ودقيق، وقد وجدتُ منه فائدةً جمةً وتصوراً متكاملاً لديانة المسيحيين وما شابها عبر العصور من تحريف وزيف، وما أدخل على عقيدتها التوحيدية من أفكار دخيلة وعقائد منحرفة، وهو كتاب موجز عن مختلف فرق النصارى ونِحَلِهم وكنائسهم وأهم رجالهم ومفكريهم عبر العصور؛ وقد استطاع أن يكشف عن التناقض الكبير الوارد في كتبهم.
أنصح بقراءته وبشدة وخصوصاً لمن أراد أن يطرق باب الأديان.
لا يوجد تعليقات
أترك تعليقًا Cancel